فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا الذي ذكرته لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيمز انتهى من البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله تعالى.
فتحصل أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الخضر حيًا باقيًا لم يثبت منها شيء. وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه.
وممن بين ضعف الأحايث الدالة على حيان الخضر، وبقائه- ابن كثير في تاريخه وتفسيره. وبين كثيرًا من أوجه ضعفها ابن حجر في الأصابة. وقال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ساق الأحاديث والحكايات الواردة في حياة الخضر: وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم. وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًا، لا تقوم بمثلها حجة في الدين.
والحكايات لا يخلو أكثرها من ضعف في الإسناد. وقصاراها أنها صحيحة غلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره. لأه يجوز عليه الخطأ والله أعلم، إلى أن قال رحمه الله: وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه عجلة المنتظر في شرح حالة الخضر للأحاديث الواردة في ذلك المرفوعات- فبين أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم. فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد- اهـ. منه.
واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته. فزعموا أنه لا يشمله عموم {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] ولا عموم حديث: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على على وظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم» كم تقدم. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى: ولا حجة لمن استدل به- يعني الحديث المذكور على بطلان من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: «ما من نفس منفوسة..» لأن العموم وإن كان مءكد الاستغراق ليس نصًا فيه، بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بـ: هو حي بنص القرآن ومعناه. ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة: فكذلك مخاطبة بعضهم بعضًا، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا اهـ. منه.
قال مقيده عفا الله وغفر له: كلام القرطبي ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع، فإنه اعترف بأن حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عمومًا مؤكدًا، لأن زيادة «من» قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصًا صريحًا في العموم لا ظاهرًا فيه كما هو مقرر في الأصول. وقد اوضحنا في سورة: المائدة.
ولو فرضنا صحة ما قاله- القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم- لا نص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحث في كل عام، فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سندًا ومتنًا. فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أوسنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعًا.
وقوله: إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث. فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناوله عيسى، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: «لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد» فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} [النساء: 158] وهذا واضح جدًا كما ترى.
ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم، ولم يثبت شيء يعارضه.
وقوله: إن الخضر ليس مشاهدًا للناس ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضًا. يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين:
الأولى- أن دعوى كون الخضر محجوباُ عن أعين الناس كالجن والملائكة- دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها، لأن الأصل أن بني أدم يرى بعضهم بعضًا لاتفاقهم في الصفات النفسية، ومشابهتهم فيما بينهم.
الثانية- أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النَّبي بالغيب الذي هو هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة. عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة. ولو سلمنا جدليًا أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون. وأن مثله لم يقصد بالشمولي في العموم- فاصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود. خلافًا لمن زع أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق.
قال صاحب جمع الجوامع في مبحث العام ما نصه: والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته. فقوله: النادرة وغير المقصودة، يعني الصورة النادرة وغير المقصودة. وقوله: تحته. يعني العام. والحق أن الصورة النادرة، وغير المقصودة صورتان لا واحدة، وبينهما عموم وخصوص من وجه على التحقيق.
لأن الصورة النادرة قد تكون مقصودة وغير مقصودة. والصورة غير المقصودة قد تكون نادرة وغير نادرة. ومن الفروع التي تبنى على دخول الصورة النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها- فيهما اختلاف العلماء في جواز دفع السبق- بفتحتين- في المسابقة على الفيل. وإيضاحه- أنه جاء في الحديث الذي رواه اصحاب السنن والإمام أحمد م حديث أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» ولم يذكر فيه ابن ماجه «أو نصل» والفيل ذو الخف، وهو صورة نادرة. فعلى القول بدخول الصورة النادرة في العام يجوز دفع السبق- بفتحتين- في المسابقة على الفيلة. والسبق المذكور هو المال المجعول للسابق. وهذا الحديث جعله بعض علماء الأصول مثالًا لدخول الصورة النادرة في المطلق لا العام. قال: لأن قوله: «إلا في خف» نكة في سياق الإثبات. لأن ما بعد «إلا» مثبت، والنكرة في سياق الإثبات إطلاق لا عموم. وجلعه بعض أهل الأصول مثالًا لدخول الصورة النادرة في العام.
قال الشيخ زكريا: وجه عمومه مع أنه نكرة في الإثبات أنه في حيز الشرط معنى، إذا التقدير: إلا إذا كان في خف. والنكرة في سياق الشرط تعم، وضابط الصورة النادرة عند أهل الأصول هي: أن يكون ذلك الفرد لا يخطر غالبًا ببال المتكلم لندرة وقوعه. ومن أمثلة الاختلاف في الصورة النادرة: هل تدخل في العام والمطلق أولًا- اختلاف العلماء في وجوب الغسب من خروج المني الخارج بغير لذة، كما تلدغه عقرب في ذكره قينزل منه المني. وكذلك الخارج بلذة غير معتادة؛ كالذي ينزل في ماء حار، أو تهزه دبة فينزل منه المني فنزول المني بغير لذة، أو بلذة غير معتادة صورة نادرة، ووجوب الغسل منه يجري على الخلاف المذكور في دخول الصور النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما. فعلى دخول تلك الصورة النادرة في عموم «إنما الماء من الماء» فالغسل واجب، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة ذلك في المطلق ما لو أوصى رجل براس من رقيقه، فهل يجوز دفع الخنثى أولًا. فعلى دخول الصورة النادرة في المطلق يجوز دفع الخنثى، وعلى العكس فلا. ومن أمثلة الاختلاف في دخول الصورة غير المقصودة في الإطلاق. ما لو وكل آخر على أن يشتري له عبدًا ليخدمه، فاشترى الوكيل عبدًا يعتق على الموكل، فالموكل لم يقصد من يعتق عليه، وإنما أراد خادمًا يخدمه، فعلى دخول الصورة غير المقصودة في المطلق يمضي البيع ويعتق العبد، وعلى العكس فلا. وإلى هاتين المسألتين أشار في المراقي بقوله:
هل نادر في ذي العموم يدخل ** ومطلق أولًا خلاف ينقل

فما لغير لذة والفيل ** ومشبه فيه تنافي القيل

وما من القصد خلا فيه اختلف ** وقد يجيء بالمجاز متصف

وممن مال إلى عدم دخول الصور النادرة وغير المقصودة في العام والمطلق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر رجحانه بحسب المقرر في الأصول- شمول العام والمطلق للصور النادرة، لأن العام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أوسنة. وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه، بل يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك. وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] الآية وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد» هو الصحيح، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص.
ومما يوضح ذلك: أن الخنثى صورة نادرة جدًا، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع. وما ذكره القرطبي من خروج الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه، لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه حدثه به تميم الداري، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور، لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحهك حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد، حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان، حدثنا ابن بريدة حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره. فقالت لئن شئت لأفعلنّ؟ فقال لها: أجل؟ حديثيني. فقالت.. ثم ساق الحديث وفيه طول. ومحل الشاهد منه قول تميم الداري: «فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رايناه قط خلقًا، وأشده وثاقًا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك! ما لك!» الحديث بطوله- إلى قوله – «وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليَّ كلتاهما..» الحديث.
فهذا نص صريح في أن الدجال حي موحود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الدارمي المذكور، وإنه باق وهي حي حتى يخرج في آخر الزمان. وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدلّ على إخراجها دليل، كما قدمناه مرارًا وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقي العام حجة في الباقي، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله:
وهو حجة لدى الأكثر إن ** مخصص له معينًا بين

وبهذا كله يتبين أن النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة، ونفي الخلد عن كل بشر قبله- تتناول بظواهراها الخضر ولم يخرج منها نص صالح للتخصيص كما رأيت. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن العلماء اختلفوا اختلافًا كثيرًا في نسب الخضر، فقيل: هو ابن آدم لصلبه. وقال ابن حجر في الإصابة: وهذا قول رواه الدار قطني في الأفراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس، ورواد ضعيف، ومقاتل متروك، والضحاك لم يسمع من ابن عباس. وقيل: إنه ابن قابيل بن آدم قال ابن حجر: ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين. ثم ساق سنده وقال: هو معضلل وحكى صاحب هذا القول: إنه اسمه خضرون وهو الخضر. وقيل: اسمه عامر، ذكره أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي. وقيل: إن اسمه بليان بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. ذكر هذا القول ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه. قاله ابن كثير، وغيره. وقيل: إن اسمه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وهذا قول إسماعيل بن أبي أويس، نقله عنه ابن كثير وغيرهما.
وقيل: خضرون بن عماييل من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل: وهذا القول حكاه ابن قتيبة أيضًا ذكره عنه ابن حجر. وقيل: إنه من سبط هاورن أخي موسى، وروي ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن ابن عباس، ذكره ابن حجر أيضًا ثم قال: وهو بعيد، وأعجب منه قول ابن إسحاق: إنه أرميًا بن حلقيا، وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير، وقيل: إنه ابن بنت فرعون، حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة.
وقيل: ابن فرعون لصلبه، حكاه النقاش. وقيل: إنه اليسع، حكى عن مقاتل. وقال ابن حجر: إنه بعيد.
وقيل: إنه من ولد فارس. قال ابن حجر: جاء جاء ذلك عن ابن شوذب أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب. وقيل: إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معن من أرض بابل، حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه. وقيل: كان أبوه فارسيًا، وأمه رومية. وقيل عكس ذلك اهـ. والله أعلم بحقيقة الواقع. وقد ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. والفروة البيضاء: ما علو وجه الأرض من الحشيش الأبيض وشبهه من الهشيم. وقيل. الفروة: الأرض البيضاء التي لا نبات فيها. وقيل: هي الهشيم اليابس.
ومن ذلك القبيل تسمية جلدة الرأس فروة، كما قدمنا في سروة البقرة في قول الشاعر:
دنس الثياب كأن فروة راسه ** غرست فأنبت جانباها فلفلا

اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}.